ثقافة وفن

بوز فلو.. بين عوالم العشب الأزرق والمعري ودانتي

الجهة تيفي ــ منعم وحتي

إن عالم الحواري وتفاصيلها كان مُلهِما أصيلا لأغاني الراب من ناحية كتابة النصوص، وسيكون من باب التحول المهم والنوعي أن تجد نصوص الراب مصدرا جديدا غنيا لكلماتها من المنبع المتفجر لروايات وأشعار ومصنفات الأدب العالمي.

سنتعرض بالتحليل التفاعلي لقطعتين موسيقيتين، من آخر إبداع ل”بوز فلو – Pause Flow”، والذي حمل إجمالا عنوان EP 112، واللتان حملتا اسم : “البيضة مونامور” و “دوزا”، لكن قبل ذلك من المهم الإحالة إلى ثلاث كتب أساسية من الثقافة والفكر الإنساني لتأطير المعاني المضمرة في القطعتين.

1- رواية العشب الأزرق للكاتبة الأمريكية بياتريس سباركس:

هي رواية “L’herbe bleu” للكاتبة والطبيبة النفسانية “Beatrice Sparks”، صدرت سنة 1971، بما أثارته من جدل باعتبارها استندت لمذكرات حميمية لمراهقة في سن الخامسة عشر، انغمست في عوالم استهلاك المخدرات، ووصفت بشكل دقيق عوالم هلوساتها وتقاطعات المتخيل والواقع، والتحولات النفسية في تلك الأمكنة المغلقة والمشاعر الانعزالية التي راودتها، وطبيعة الأفكار التي تجول في مخيالها أثناء التعاطي، بين النشوة والرفض والحلم والانفلات والهروب والانكسار والسمو…، لقد خلقت الرواية ضجة كبيرة في أوساط الشباب وصدمة قوية للأسر بذلك الوضوح في التوصيف، لأحدى الطابوهات التي كان المجتمع يتحاشى الخوض في عوالمها. من المقاطع المؤثرة في الرواية على لسان هاته المراهقة: “سقطت قطرة مطر على جبهتي، جعلتني أشعر وكأنها دمعة تتساقط من السماء. هل الغيوم والسماء تبكي علي حقا؟ هل أنا وحدي حقا في هذا العالم الرمادي والحزين؟ هل من الممكن أن الله نفسه يبكي من أجلي؟”.

2- الرواية المتخيلة “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري:
هي رحلة متخيلة لعوالم الآخرة، كُتبت بطابع ممسرح يستند إلى الأدب الغرائبي، اعتمد على السرد الجدلي انطلاقا من الحلم والأسطورة في مسار هاته الرحلة، وقد طرح أسئلة فلسفية بمُسحة رمزية حول الإنسان والحياة والعوالم العميقة التي تلفهما. وقد سبح مخياله لدرجة توصيف لقاءات غرائبية مع شعراء وشخصيات وضعها في حبكة مسرحية كانت جديدة وغير مألوفة في الكتابات الأدبية. لتحديد الفترة الزمنية للنص فقد توفي أبو العلاء المعري سنت 1057م، بعد أن أصيب بالعمى منذ طفولته، مما قد يكون ذلك أحد أسباب ارتفاع منسوب مخيلته الحالمة بفقدان البصر.

– الملحمة الشعرية “الكوميديا” للكاتب الإيطالي دانتي أليغييري:
كتب Dante Alighierei، نصه الشعري بين سنتي 1302 و 1321، وقد بدأ نصه بلحظة استيقاضه ليتخيل أنه تائه في مفترق طرق في غابة مظلمة، حين تجاذبته ثلاثة عوالم: الجنة والمطهر والنار، ليرتقي بين تلك الممرات والطبقات العلوية والسفلية، وليلتقي الشعراء والفلاسفة، بقالب شعري انقسم فيه 100 مقطع إلى ثلاث زمر شعرية، جسدت الصراع بين الخير والشر، وقد اعتبر دانتي أن الإنسان محور هذا الصراع من أجل سمو الخير وديمومة السكينة، حيث كتب: “إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم”. لا شك أن تداخل نصيي المعري ودانتي وفارق المرحلة الزمنية يحيل إلى اقتباس دانتي من المعري.

إن هاته التوطئة كانت لازمة، كمدخل لتفكيك كتابة نصي “البيضة مونامور” و “دوزا”، وقد يتهيأ للبعض أن النصوص المكتوبة بالدارجة أو الأمازيغية لا تحمل بعدا فلسفيا وفكريا !! لكن هذا من باب الوهم.

يبدأ نص المقطع الأول تحت عنوان “دوزا” “Doza”، بتخيل بوز فلو – Pause Flow”، لما يقع وسط الدماغ أثناء تسرب جرعة المخدر إلى جسده، تشبيها بنظرية “البيغ بونغ”، “Big Bang”، كانفجار في دواخله شبيه بالانفجار الكوني العظيم، وهو نوع من الذكاء في استعمال المحاكاة، إنها الدلالة الرمزية لتوصيف الهلوسة الجنونية لمفعول هذا المخدر القوي، وقد أشار إلى أنه لو كان يعلم خطورته القاتلة منذ البداية، ما كان اقترب حتى من “الكوزة” جوزة الطيب، والتي تستعمل أحيانا فقط للترفيه الخفيف في أكواب الشاي المغربي، يزيد “بوز فلو” في تدقيق الحالة بأن كل هذا السم يبدأ في التفاعل بجسمه كنُطفة، أي تشبيها بالتكوين الأولي للجنين، هي نفس عوالم رواية العشب الأزرق، في تدقيق أحاسيس المتعاطين لهذا السم المُنْتَشَى. يستمر “بوز” في السرد بتداخل المشاعر والعوالم في داخله بفعل الجرعة الزائدة “Doza”، حيث تتداخل الأسطورة بالواقع، كإحالة على عوالم الجنون التي وردت كثيرا في نصوص “بوز فلو- Pause Flow”، حيث كانت الإشارة في مقاطع أخرى إلى كتابات الفيلسوفين نيتشه و فوكو. تصل مرحلة سرد هاته الرحلة المتخيلة كما في “رسالة الغفران” إلى مرحلة تصوره لموته بعد أن استوطن السم جسده، كإكسير تملكه واستعبد كل أطرافه، وأنه في انتقالية تخيل الموت حَاوَر غَسَّاله وأكد له أن ما وقع له حقيقي وليس من باب الخيال، هو تداخل متمفصل في ربط الواقع بالخيال… تسللتِ الجرعة “Doza” خفية إلى دمه، فتحولت ممرات أوردته الدموية إلى طريق تملأه حوادث السير وإنذارات الخطر، وحالة استنفار مروعة وشغب عارم في الدماغ، ارتعاد عضلات الساقين، ارتعاش بؤبؤ العين وفوضى من الأضواء القوية تتراقص أمام عينيه، وتبقى قمة روعة الكتابة حين تشبيهه خلايا الدماغ بجيش طروادة في الأسطورة اليونانية حين أُدْخِلَ حصان طروادة، وكان سببا في انهيار المدينة وسقوطها في يد العدو، ليسطر الشيطان على الجسم كما كتب “بوز فلو”، لتصل النشوة إلى ذروتها ولتُسْمَع زغاريد العرس بقوة، وصف في أدق التفاصيل في لحظة تحول المشاعر والأحاسيس والتهيئات…، وصولا إلى مرحلة التقاطع بين الحياة والموت، وانقباض التنفس بين شهيق في الحياة وزفير في الآخرة، هي رقصة الجسم لسمفونية الموت، انتقل المخيال ب “بوز فلو” إلى مرحلة الموت، محاكاةً لرحلة إبي العلاء المعري في “رسالة الغفران”، حيث يصل “بوز” إلى الممر عبر العالمين “البرزخ”، ليكتشف أن اسمه غير وارد في لوائح كشوفات الموتى، يستمر في رحلته ليجد الموتى في حالة ذهول وجدال حول مصيرهم ومآلهم، حيث التقى في تلك العوالم كما في رحلة دانتي “Dante”، مع شخوص من تناقضات عالم الحياة: تجار دين، مناضلين، ولاة،….، وكل فئة تتمسح بقشة إنقاذها من طرف مبعوثها وحكيمها “بوذا”، وصفها بنوع من المقامرة على الغفران حسب الأقوام.
يبقى التحول في سرد هذا المقطع لدى “بوز”، عند تشبيه السيول البشرية بقطعان تتملكها الظاهرة المرضية لمتلازمة ستوكهولم، حين يقع ضحايا الانتهاكات والاعتداءات في حب من اعتدوا عليهم وعذبوهم، ليخلص لضرورة إطلاق عنان.الحرية (العناد). هي تحفة مبدعة بكل المقاييس في الموسيقى وأدب رحلة المخيلة. فقط للتذكير أنه عكس بعض القراءات المغرضة التي ربطت النص بالحقل الديني، فإن النص ينتمي لعوالم الفكر والفلسفة والموسيقى والأدب الغرائبي.

المقطع الموسيقي الثاني، حمل اسم “لبيضا مون أمور” “Lbayda Mon amour”، وفيها تقاطع كبير مع النص الأول، باستعمال المحاكاة في وصف ظواهر التماس بين الواقع والخيال، النص فيه إحالة على السم الأبيض لمخدر الكوكايين (الأبيض) توظيفا للرمز في عنوان “معشوقتي البيضاء”، نفس حبكة السرد بالاستناد إلى الثقافة العالمية. يبدأ النص بنبرة حزينة حين يشير “بوز فلو – Pause Flow”، إلى أن مفعول هذا العشق جعل أول كلمة مُغَناة انطلقت من شفتيه تَسْلٍبُ من وجهه الضحكة وقد هربت أحلامه، تحت تأثير محبوبته البيضاء، إن شمسه دائمة الغروب، فكلما أرخى ظلام الليل سدوله، انكمش في عزلته. ويزداد تغزله في حبه الأبيض بمنتهى الرمزية حين ينتشي بجمالها الأخاذ والذي يضاهي رونقه سمو الجبال، حيث النظرة في حلاوة لونها يُشْفِي لوثة الجنون، ويتربع على عرش عينها حاجب خلاب كالقوس وأشفار في قمة البهاء كالنِّبال. يستمر هذا الهذيان الواعي والمبدع إلى قمة الجنون في توصيف هذا العشق القاتل بالسم الأبيض، بإحراق “بوز” لعجلات طريق العودة، وهو يطلب الاستزادة ثم الاستزادة من هذا الغرام الذي يستعبده حد الإدمان، حيث كل جرعة منها ترتفع بروحه حَدَّ تَجَسُّدِ شخصية العَرَّاف فيه مع كل تعاطي، ورائحتها تستهويه مع كل استنشاق، وهوس عشقها قد جعله تحت أعين حَرَسِ الليل.
في تحول مبدع سيلجأ “بوز” إلى حضن أمه انفلاتا من هذا الهوس الجنوني، والاستعباد القاتل للعشق الممنوع لمحبوبته البيضاء، وفرارا من الغرابة المميتة لهذا العالم المُوحِش، والفزع من “شياطين الزومبي” التي اجتاحت الطرقات والممرات في دماغه.. حوادث مميتة.. ثم حوادث مميتة (هي تقاطعات مع نفس عوالم مقطوعة Doza)، يستمر في استجداء أمه قصد إنقاذ طفلها من براثن هذا التوحش، حيث يُورِدُ أن ذلك الطفل الذي ربته أمه منذ ظهور أسنان حليب رضاعته الأولى، قد سقطت كل أضراسه وفقد بفعل هذا العشق الأبيض القاتل كل موارد حياته، واستوطن السم القاتل عروقه، هي الحقيقة المميتة التي لا يعتريها أي بهتان، إنه استفاق متأخرا على زيف هذا العشق وخداع الرموش المُدَّعية.. حيث كان ينتظر عودة أحلامه المخدوعة على ظهر الخذروف الدوار (الطرومبية)، لقد تحول إلى ببغاء ترفرف أجنحته في الفراغ المهول وهو مفزوع من قهقهات الآخرين، وقد علت منقاره الأوساخ وتصدعت أحاسيسه وانكسرت عواطفه، وأصبح كالمجنون يهيم بآلامه في الطرقات، لقد نفذ العشق الأبيض القاتل إلى دواخله وغادر النوم جفونه حتى صَدِئَت عقارب ساعته، هو عشق حد الإدمان فَتَّتَ أواصر الصُّحبة.. هي نفس الحلقة المفرغة بمجيء كل ليل وتَكَرُّرِ نفس الهلوسات الجنونية وضبابية وتداخل الصور والمشاهد في رأسه. لقد سمع هديرا ثانيا لريح قوية قطعت إشارة الاتصال بالعالم الخارجي لتتوقف مشاهد فيلم حياته في لقطة محرجة جدا.. ثم ليلة مظلمة أخرى وجرعات جديدة للعشق القاتل “Doza”، جرعات كانت صعبة في الحصول عليها لكنها كانت في المتناول ؟. في ذات الليلة صَعْقَةُ بَرْقٍ قوية، حضرت فيها شيطانة العشق الأبيض، فر فيها الحمام ليختفي في أعشاشه، في حين خرجت الأفاعي تتباهى بامتلاك المكان واستعباد أهله… ويسأل “بوز” الشيطانة: (لماذا كل هذا ؟ أين أنا ؟ من أنا ؟ أين جواد لقد كان معنا منذ فترة ؟ (الأسم الحقيقي ل Pause Flow)، هل مات ؟ هل فقط نسينا ؟ أجيبي أيتها الشيطانة..! أين قبره ؟ هذا الذي في المرآة لست أنا.. أجيبي.. أجيبي أيتها الشيطانة…).
إن ل “بوز” قدرة كبيرة على التحول المبدع في نصوصه، حيث لجأ في استكمال حواريته السردية مع شيطانة العشق، إلى الإحالة على قصيدة الشاعر الأمريكي “Edgar Allan Poe”، “إدغار ألان بو”، والتي كتبها سنة 1845، تحت عنون “الغراب”، وهي حوارية متخيلة لزيارة غراب ليلي لعاشق منغمس حتى الجنون في يَمٍّ من هلوسات الحب المستحيل لمعشوقته التي فقدها “لينور”، وتكررت في السردية لازمة جواب الغراب: “Nevermore” بمعنى (أبدا لن يتكرر هذا بعد اليوم)، كرمزية لإمكانية إحداث القطيعة والتخلص النهائي من العشق القاتل لهذا السم الأبيض، رغم عدم يقينية “بوز” في إطلاقية حدوث ذلك (جوابه: مُحَال)..

ويبقى التحول الأروع في النص تحوير السردية من قبل “بوز” إلى اللغة الأمازيغية حين ردت أمه على طلبه اللجوء إلى حضنها لتنقذه من استعباد شيطانة العشق الأبيض، حيث تحدث على لسان أمه بشعر أمازيغي بديع: (اقترب مني يا صغيري وأخبرني عن أحوالك، من اختطفك هل السماء أو الأرض؟، من قبض روحك هل هوس الدنيا أو كلامها؟ من دفنك يا ابني من حال لحال؟، تعالى أُدْفِيك من برد الجبال، تعالى فالكوابيس تراودني من جانبك).
يجب أن ينتهي كل هذا فكم من قتيل شبه حي لا ينتظر إلى تغسيل جسده لدفنه، وكم من شبه ميت لم ترحمه موته لتأخذه..
ينتفض بعد ذلك “بوز” بوضع معشوقته القاتلة في صندوق، يُحْكِمُ إغلاقه ويرميه بعيدا ويتلف مفاتيحه..

نحن فعلا أمام تحول عميق ونوعي في كتابة نصوص الراب، كل التقدير والتشجيع للمبدع جواد أسرادي، الاسم الحقيقي ل Pause Flow، ابن مدينة إيموزار في قلب الأطلس، وللتذكير فهو شاعر ابن شاعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى